×

المـعـلّـم البطـل

المـعـلّـم البطـل

لم يكن المعلّم في حيرة من أمره كما هو الآن؛ فقد اعتاد على نهج تدريسيّ ألفه لسنوات وعقود، وحقّق - خلاله - الكثير من أهداف التّعلّم المرجوّة ومخرجاته، وفجأةً ودون سابق إنذار وجد نفسه أمام نهج جديد، ربّما سمع عنه، أو قرأ عنه، أو طبّـقه عبر نشاط صفّـيّ تفاعليّ عدة مـرّات في العام، وقد يكون مرّ به سابقًا، في إثراء مهارة، أو إنجاز نشاط؛ تلبيةً لمتطلّبات مهارات متعلّم القرن الحادي والعشرين.

"التّعلّم المدمج": ذلك النّهج الجديد الذي تحول العالم بأسره نحوه؛ فأصبحنا بين خيارين: الاستمرار في التّعليم، أو التّوقّـف لفترات تفرضها - علينا - الظّروف الرّاهنة. من هنا جاءت فكرة التّعلّم المدمج، أو المهجّـن - كما يسمّيه بعضهم؛ كي نكون قادرين على الاستمرار في التّعليم أنّى كانت الظّروف، ومهما بعدت المسافات. ويبقى السّؤال: أين معلّمنا من هذا؟!

قابلت العديد من معلّمينا في إحدى أكاديميّات مؤسسة قطر الذين بدأوا بتطبيق " التّعلّم المدمج"، وهم ممن يعلّمون فئةً من ذوي التّحدّيات، وهم الأكثر حاجةً لتلـقّي الدّعم المباشر من معلّمهم، ومدرستهم، وتعاون أولياء أمورهم. تعايشت لسويعات مع بعض المعلّمين علّني أتعلّم، وأفهم: كيف يستطيع هذا البطل - المعلّم – أن يجلس في غرفته الصّفيّة مع فئتين مختلفتين من الطّلبة من حيث الحضور. فكان منهم من يحضر تحت نهج " التّعلّم المدمج"، ومنهم من يستمرّ في التّعلّم عن بعد - كما قـرّر ولي الأمر - حرصًا على سلامة ابنه، أو ابنته، وفئات مختلفة من حيث التّحديات، والاحتياجات. وجدت أنّ كلّ تلميذ يحتاج لإعداد، وشرح، وأنشطة خاصّة به.

وهنا تولّدت لديّ أسئلة، وبدأت أبحث عن إجابات لها؛ لعلّي أساهـم - ولو بشكل بسيط - في مساعدة معلمينا، ومن أكثر الأسئلة التي زاحمت فكري: "ماذا سأقدّم للطّالب عند تواجده في المدرسة؛ ليستشعر قيمة حضوره؟". فحضور الطّالب للمدرسة يستوجب تقديم ما لا يمكن تقديمه في الفصول الافتراضيّة، أو عبر المنصّات التّعليميّة، وهناك العديد من التّساؤلات التي مازالت قائمةً، منها؛ هل تمّ إعداد المعلّم وتدريبه على هذا النّهج الجديد "التّعلّم المدمج" إعدادًا كافيًّا؟ هل تـم تزويده بالمصادر، والمراجع، والدّراسات اللازمة؟ ألا يصاحب تغيير النّهج مراجعة المنهج المكتوب، والمدرّس، والمقيّم. فالتّغيير يشمل محاور عمليّة التّعلّم والتّعليم كلّها؟ كان تركيزي - أثناء زيارتي – لتلك الأكاديميّة على ثلاثة أمور، هي:

أولًا: وصف السّياق، أي: وصف الواقع كما هو في الأكاديميّة:

  • معظم الطّلبة من ذوي الاحتياجات الخاصّة من فئة 2 و 3.
  • الجدول الزّمنيّ موزّع على يوم (أ)، ويوم (ب)، وبالتّالي هناك من يحضر ثلاث مرّات في الأسبوع، وهناك من يحضر مرّتين، وبالتّتابع، أي: الطّالب يحضر خمس مرّات كل أسبوعين. وما عدا ذلك فالتّعلّم يتمّ عن بعد.
  • توزيع جداول المعلّمين لا يتعارض بين فئة الحضور الشخصي، وفئة الحضور عبر الانترنت.
  • المنصّة التّعليميّة المعتمدة في المدرسة: صف جوجل(Google classroom).
  • هناك شروط، وقوانين تلتزم بها الأطراف عند الانتقال للتّعلّم عن بعد.
  • هناك تنسيق وتنظيم إداريّ جيّد في آليّة توزيع الطّلاب في عمليّة التّعليم المدمج.

ثانيًا: التّحديات المتعلّقة بالممارسة التّعليميّة:

عند زيارة المدرسة، والتّحدّث إلى المنسّقة، والمعلّم القائد والمعلّمين تبيّن ما يأتي:

  • تتمّ عمليّة التّعليم والتّعلّم بطريقتين مختلفتين في آن واحد: يتواجد بعض الطّلبة في الفصل الدّراسيّ، وبعضهم الآخر يتلقّون التّعليم عن بعد، وكلاهما يعملان في آن واحد.
  • تقديم الأنشطة المنهجيّة جميعها بالطّريقة نفسها للفئتين إلكترونيًّا عبر الانترنت؛ خوفًا من توزيع الأوراق، وما يترتّب عليه من أهميّة التّعقيم، وعدم ملامسة الأسطح.
  • صعوبة تصميم أنشطة جماعيّة فيكتفون بالأنشطة الفرديّة.
  • عدم التّمكّن من دعم الطّلبة وفقًا لاحتياجاتهم؛ لغياب عنصر الدّعم في المدرسة، لاسيّما حالات التّوحّد.
  • إعطاء الخيار للطّالب بين التّعلّم المدمج، أو التّعلّم عن بعد، أدّى إلى رفع نسبة التّعلّم عن بعد، ولكن في المقابل مازال التّعلّم المدمج قائمًا، وعلى المعلّم العمل على كليهما.
  • صعوبة تدريس بعض مهارات اللّغة لاسيّما الكتابة.
  • قلّة المادّة التّـفاعليّـة بين الطّالب، والمعلّم، والمنهج .
  • صعوبة بناء العلاقة مع الطّلبة، ومتابعة أولياء الأمور .
  • آليّة التّـقيم.

ثالثًا: الحلول المقترحة.

بعد كل ما شاهدته، ورأيته، واستمعت إليه من المعلّمين، خرجت، وأنا أتأمّل كلّ ذلك: كيف يمكن تقديم الدّعم لكلّ من المعلّم والطّالب؟ كيف لهذا البطل أن يترك في الميدان دون أدوات تعينه، وتسهّل عليه؟ كيف يطلب منه: الإعداد، والتّدريس، والمتابعة، والتقييم دون أخطاء؟!

بعد الاطّلاع على كلّ ما سبق يمكن أن أقدّم بعض المقترحات التي قد تعين المعلّم في التّغلّب على بعضها؛ أمّا ما يتعلّق بالتحدّيات التي تخصّ أنظمة المدارس وقراراتها، فهذا حقّ من حقوقهم، ولا نستطيع التّدخّل فيها. ينصبّ دورنا في المساعدة بإيجاد حلول تدعم المعلّم في عمليّة التّعليم والتّعلّم. ومن هذا المنطلق أرى أنّ من الحلول المناسبة ما يأتي:

  • التّخطيط والإعداد على مستوى المواد جميعها، وعلى مستوى المرحلة للوحدة، أو المحتوى المدرّس؛ فتوحيد الرؤى في التّخطيط، والإعداد، وما يتبعه من إستراتيجيّات، وأهداف لهذه الفئة من المتعلّمين ضرورة، وليست حاجةً، يمكن لها أن تتكيّـف، وتتلاءم مع محتوى الموضوع. فتمكين الطّالب من مهارة عبر إستراتيجيّات موحّـدة يألفها كلّ من الطّالب، والمعلّم، وولي الأمر تقلّل من تشتّته، وتساعده على التّركيز في أداء المهمّة خلال روتين، وتكرار مستمرّين؛ فنحن نعلّم فئةً من الطّلبة ذوي التّحدّيات؛ لذا لا بدّ من توحيد واعتماد مجموعة من الاستراتيجيات التي يمكن لها أن تتكيّف، وتتلاءم مع محتوى الموضوع (فالموضوع مختلف والاستراتيجيات موحّدة ومكررة). فالطّالب عندما يكرّر الاستراتيجية في غير مادة تتاح له فرصة فهمها وإتقانها بغير لغة، ويتلقّى معلومات حول آليّة أدائها بأساليب وطرائق مختلفة، وهذا بحدّ ذاته يولّد عنده فهمًا أعمق، وقدرةً أسرع على الأداء. فالتّخطيط الجيّد يبدأ بجمع البيانات القائمة على تساؤلات عدّة، مثل:
    • – ما مخرجات التّعلّم التي يمكن تطبيقها ضمن السّياق القائم ؟
    • – ماذا سأقدّم للطّالب عند حضوره للمدرسة؟
    • – ماذا سأقدّم له أثناء التّعلّم عن بعد؟
    • – كيف يمكن توزيع ذلك خلال فترة زمنيّة محدّدة؟
    • – ما الاستراتيجيات والأنشطة التي يمكن الاستعانة بها؟
    • – ما التّقويمات التّكوينيّة المناسبة لتلك المخرجات؟ وكيف يمكن قياسها، متابعتها؟
    • – كيف ومتى يمكن تقديم التّغذية الرّاجعة الفعّالة للطالب؟

ونحن في معهد التّطوير نبني برامجنا على أساس جمع احتياجات المدارس، والمعلّمين، والتي تخدم - في مجملها - مخرجات التّعلّم المرجوّة للطّلاب، كما نسعى لتقديم الدّعم لمختلف البيئات التّعليميّة مهما تمايزت احتياجاتها، وذلك بالاعتماد على بيانات تمّ جمعها، ودراستها، وتحليلها، ثم اتّخذ فيها قرار البدء بالتّخطيط، والإعداد ومن ثمّ تقديمها للمجتمعات التعلّميّة.

  • التّغيير، والتّجديد، والتّطوير: لا يقوم التّغيير المطلوب إحداثه على جبّ ما مضى؛ بل هو الذي يقوم على تأمّل ما كان، وتجديد ما يلزم؛ ليتناسب ومتطلبّات الوضع الرّاهـن، والاحتياجات اللازمة. فالتّعلّم المدمج نهج جديد، ولا بدّ أن يتبعه التّجديد أيضًا في مسار العمليّة التعليميّة بكلّ مكوناتها بدءًا من التّخطيط، ووصولًا للتّقييم. آن الأوان للتّغيير، والتّجديد، والتّطوير في عدّة مجالات، ولكن لا يمكن تطبيق كلّ ذلك في آن واحد، فلنبحث عن الأولويّات؛ ولكن ما هو التّغيير الذي نريده؟ إنّه التّغيير النّابع من الذّات؛ فهو أقوى بكثير من التّغيير المفروض من الخارج، كما أنّ أثره أكثر بقاءً، وشمولًا، ونحن ندرّب ونعلّم ونحثّ طلبتنا على مجموعة من المهارات كمهارات التّفكير العليا ومهارة حلّ المشكلات، فالأجدى أن نكون الأسوة الحسنة، أن نتحدّى أنفسنا ونقيّم ذاتنا، هل أستطيع؟ عليك أيّها البطل أن تبدأ في التّفكير بطريقة إبداعيّة. أن تخرج خارج الصندوق الذي ألفته لسنوات، وأن تكون النّموذج، وتبادر إلى تطبيقه، فلا توقفك جائحة، ولا يحبسك مكان. آن أوان التّغيير؛ فلا خوف من التّغيير؛ فالخوف من الجمود أكبر. وأؤكّد لك بطلنا: نعم؛ ومعًا نستطيع التّغيير.

رلى محمد العطاونة

رئيس قسم اللّغة العربيّة
معهد التطوير التربوي